يعقوب يوسف قاسم

نغمةٌ شاردة عن إيقاع أبناء جيله، روحٌ معذبة تروي عن نفسها وعن الوجود والعدم. يعقوب قاسم سيد الغموض، في حياته وفنه ورحيله المبكر. هذا الغموض الذي أضحى ميزة من ميزاته كفنان وإنسان. بالرغم من أننا لا نعرف عنه إلا القليل، غير أن قليله يفيض عطاءً وقوةً وتعبيراً عن الوجود الانساني الزائل. صاحب الرؤى والخيال المشهدي والغرائبية والفانتازيا المدهشة. تفرّد بأسلوب يصعب توصيفه أو نسبته إلى حقبة محددة، فبالرغم من أن أعماله منجزة في سبعينيات القرن العشرين غير أنها تبدو للعيان معاصرة بمضامينها التعبيرية وبَوحها الآسر.

عالمه الداخلي محمّل بالأسئلة الوجودية التي تردم الهوة بين الحياة والموت والقيامة. كما إن رموزه موغلة في الزمان والمكان. استطاع أن يزرع الشك والريبة في كل زاوية من زوايا لوحاته… وفي كل شكل وضوء وانكسار ظل. لعل من أشهر ما تركه من أعمال سلسلة «العشاء الأخير» وفيها استعاد يعقوب قاسم بعض الموضوعات اللاهوتية المقطوفة من الفن الديني المسيحي، إلا أنه استنبطها بأسلوب محدّث، لا يشبه أساليب فناني عصر النهضة ولا الحقبات الفنية التالية، فتبدو جديدة على أعيننا كأننا نراها لأول مرة، لفرط ما هي مشحونة بالروحانية والمأتمية وغصة الوداعات وبريق الدموع.

هل لأن الفنان استشعر الرحيل، فاختار لحظة الفراق، اللحظة التي انفضّ فيها الجمع إلى أقدارهم وخلت الغرفة إلا من طاولة مأتمية تخرق المنظور من المقدمة الى الأعماق، عليها اثنا عشر رغيفاً قدّدها الزمن، موّزعة بلا انتظام، مما يشير بأن المعلم قد رحل وكذلك الرسل، ولم يبقَ سوى الجروح الظاهرة على لحم المخلّص، حيث في خواء المكان وعرائه التام، الشيء الوحيد الذي ينطق هو تلك الظلال المسنّنة المروّسة وتلك الأحجام الهائلة للحجارة بهندستها المستطيلة والمكعبة وبنتؤاتها التي تهيمن على فضاء الغرفة. في اللوحة الثانية، ثمة رجاء ينبعث من الثوب الملقى على التابوت الرمادي والطبق الفارغ المقدس، مما يوحي بأنها لحظة القيامة من القبر. لكأن يعقوب قاسم يعمل على الايحاء العميق، على تأثير ما لا يُرى بل يُحس، في رهبة الصمت داخل الكهف لا وجود لابن الإنسان أي للمرسل الإلهي، يكفي بعضٌ من أثره أو بعض من نوره أو طرف ثوبه كي تستيقظ روحه ويبقى حاضراً في الوجدان.

في اللوحة الثالثة من السلسلة حين ينوجد الإنسان هذه المرة يزداد الإبهام والغموض أكثر فأكثر، لأننا لا نستطيع ان نتبين سوى قامات نسوة ثلاث على مسافات متباينة، تبدين مثل أنصاب من الرخام مغطاة بطبقات من النور والرماد والظلال. فالليل داهم والضوء شحيح ولكن المرأة الأقرب الينا يبدو أنها، من ثنايا ملابسها، تهمّ بالدخول إلى عتبة غرفة مظلمة، لعلها لحظة ما بعد اكتشاف انزياح صخرة القبر وارتقاء الروح الى السماء.

يأخذنا يعقوب قاسم الى أمكنة مهجورة، إلى زمن معلق بين الماضي والحاضر، بين الأرضي والسماوي، والمقدس والدنيوي، زمنٍ حجارته ثقيلة شامخة شاحبة ولكنها مضيئة وملغزة في آن. الى أمكنة لم نرها من قبل، الى حُجرات رمادية حيث النور الشاحب وحده يبوح بقدسية نورانية، ثم يأخذنا تارة أخرى إلى حافة هاوية، حيث رجل بجسده الهزيل يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويظل قوس الأفق الأرضيّ يحيل إلى نظرة عينيه الغاربتين وهما ترويان عن لحظة غياب الفنان نفسه عن الحياة بعد معاناته مع المرض.

ثمة عناصر كثيرة تجعل من لوحة يعقوب قاسم تحفة فنية، فهو صاحب باليت (لوحة ألوان) متقشفة مقتصرة على درجات الألوان الترابية- الأرضية، والألوان الرمادية السماوية، يضاف اليها عوامل أخرى منها لعبة النور والظل ونتوء الأحجام، وأهمية المسطح الأول ونمو المنظور نحو الأعماق، والعلاقة بين الكتلة والفراغ المحيط. أضف إلى ذلك فإن الفنان ترك بصمته الخاصة في كل مكان من لوحاته حين راح يحفر في طبقات الألوان، يخدش مسطحاتها بزيوحٍ ذات أظافر حادة، تخلّف خدوشاً قوية بجموحها الذي لا يُنسى.. يحفر ليلاقي نفسه المعذبة التائهة ويستودعها أعماله، حتى أضحت إمضاءاً ثانياً له.

لا توجد معارض حالياً لهذا الفنان