لأولئك الذين يصنعون إلى الله طريقًا مُحبًّا، لأولئكَ الذين يعيشون الحُبّ مختلفًا ويبتكرون لأجله فنّ الدّوران مثل كونٍ صغير وفريدٍ، بيت حجازيّ يجمع الصّوفيّن في مدينة المحرّق، ويتركُ الفضاء حرًّا لأجلِ أن يمارسوا عاداتهم، طقوسهم، وشعائرهم في تأكيدٍ على أنّ هذه المدينة العريقة ذات حضنٍ واسعٍ وفسيحٍ.
في بيت حجازيّ، ليست الرّوح وحدها التي تحلّق، بل هي تلامسُ وجه المكانِ وترمّم جماليّاته المرهفة، وتفاصيله المعماريّة الدّقيقة والمدهشة، مستعيدةً بذلك وجهًا عمرانيًّا جميلاً في المحرّق، تمامًا كما تستعيدُ مسارات هؤلاء الصّوفيّين ومحبّتهم العميقة جدًّا للحياةِ.
حيثُ المدينةُ تتّكئ على ذاكرةٍ من جمالٍ وفنونٍ… حيث البيوتُ صنيعُ ما نحلمُ ونصدّق.
ينسجُ مركز الشّيخ إبراهيم بن محمّد آل خليفة للثّقافةِ والبحوث مساره بقلبِ مدينةِ المنامةِ التّاريخيّة، ويصلُ طريقه إلى حيث بيت الفنّان التّشكيليّ عبدالله المحرّقيّ، الذي يستعيدُ الذّاكرة كاملةً ضمن متحفٍ فنّيّ، يتعمّق في تاريخ الفنّان وسيرته، ويستعرضُ أهمّ الأعمال الفنّيّة والكاريكاتيريّة، ويحكي عن الجمالِ وهو يصنعُ الرّبيع والمكان.
بيتٌ آخر، يلوّحُ بالفنِّ ويتشبّثُ بالمدينةِ التي روحها كانت تربّي الفنّ والأمل…
منذُ أنّ الحلمَ يبقى متيقّظًا، منذُ أنّ الشّعر يمكنُ أن يصرَ بهيئةِ القلبِ في أغنيةٍ، منذُ أنّ البيوتَ أبناءُ ساكنيها، الذين إن غادروا، تبقى تنتظر. تلهمُ الحياةُ بمضمونها الجميل لمرّة أخرى سيرة المغفور له بإذنِ الله معالي الشّيخ عيسى بن راشد آل خليفة، عبر أحد البيوت التي كانَت تبصرُ مسارَ حياتِه في مدينةِ المحرّق العريقةِ، وذلكَ في امتدادٍ جميلٍ يتفرّعُ عن مركز الشّيخ إبراهيم بن محمّد آل خليفة للثّقافةِ والبحوث، إلى حيثُ البيت الذي سيشكلُّ ذاكرةً مكانيّةً تحتضنُ ضمن عروضها مجموعةً أرشيفيّةً من مقتنياته، وسردٍ ثقافيٍّ يسرد أدواره ومنحه الثقّافيّ والريّاضيّ.
يقعُ هذا البيت بموازاةِ بيت عبدالله الزّايد لتراث البحرين الصّحفيّ، ويستكملُ بوجهته مسارًا بديعًا للبيوتِ التّاريخيّةِ التي تكرّسُ ملامحها للوفاءِ لذاكرةِ الشّخصيّات الوطنيّة المُلهمة في تاريخِ البحرين الثّقافيّ.
الإعلاميّ والشّاعر حسن كمال، ابنُ المنامةِ، وصوتُ وعيِها، والذي لعقودٍ ممتدّة كان يصغي له العالمُ عبر الإذاعةِ والتّلفزيون، ويكتبُ للأغنياتِ قصائدها، وللثّقافةِ أشعارها وفكرها، يحتضنُ الآن مركز الشّيخ إبراهيم بن محمّد آل خليفة للثّقافةِ والبحوث فكرةَ استعادةِ ذاكرته بدءًا من جذر الطّفولةِ في فريج الفاضل بالمنامةِ، وصولاً إلى اشتغالاته الملهمة في الشّعر والإذاعةِ والثّقافةِ والجمالِ.
ولسيرتهِ العميقةِ والملهِمة، تسردُّ الثّقافةُ عبر المركز بيته الأصيلِ، وذاكرة الياسمين، حيث من ذاتِ الموقع والأرض المفتوحة، يسعى مركز الشّيخ إبراهيم إلى إعادة توضيبَ الذّاكرة مرّة أخرى، ويتركُ للمساحةِ حديقةً وبيتًا حميمًا، تحتضنُ فضاءاته فعلَ الشّعر والفنِّ، كما تُعيدُ تدوير الصّوت ناحية ما أنجزَ الإعلاميّ البحرينيّ القدير، وذلكَ عبر تصميمٍ معاصر وأنيق للمهندس السّويسريّ فاليريو أولجياتي. وقد عَمِد المهندس إلى توظيفِ المقاربات المتنوّعة، بدءًا من صورةِ الياسمين في ذكرياتِ الأستاذ حسن كمال والي صيّرها حديقةً ستكون فضاءً مفتوحًا أخضر للحيّ القديم، وصولاً إلى المكانِ الذي سيوظّف التّسجيلات الصّوتيّة القديمة والصّور التي ستأخذُ الزوّار إلى مساراتِ الذّاكرة.
منذُ أنّ الذّاكرةَ تنبتُ في البيوتِ الي ننتمي إليها، ومنذُ أنّ الفنّ الجميل تصنعه صفات الحياةِ… من فريجِ الفاضلِ يتشبّثُ المعمارُ التّاريخيّ بملامحِ وسيرةِ الفنّان التّشكيليّ الدّكتور أحمد باقر، الذي بقيَ شاهدًا مكانيًّا على أجزاءٍ من سيرةِ حياته. وعبرَ مركز الشّيخ إبراهيم بن محمّد آل خليفة للثّقافةِ والبحوث، يستعيدُ البيت الذي لا يزالُ يحتفظُ بطرازهِ المعماريّ الاستثنائيّ بحصائلَ الذّاكرةِ، وينسجُ ضمن فضاءاته العروض الفنّيّة والمُتحفيّة لعطاءات الفنّان د. أحمد باقر الذي اشتغلَ بإتقان على إبداعِ نتاجاته الفنّيّة بحداثةٍ وأصالةٍ باستخدام أقلامِ الرّصاص والفحم، والذي أفرَدَ ضمن منحِه الثّقافيّ سلسلة من البحوث والدّراسات المتّصلة بالفنون، إذ حصدَ خلال حياتِه درجة الدّكتوراه في علمِ الجمالِ من جامعة السّوربون بفرنسا، عن أطروحته (أبحاث ودراسات في الفنون وتاريخها في البحرين) في العام 1992 م.
هذا الحلمُ، ليس مجرّدَ معمار ثقافيٍّ، وإنّما ذاكرةُ قامةٍ فنّيّةٍ وإنسانيّةٍ، ألهمَت العالم بما تصنع.
في البيتِ الذي يحملُ ذاكرَته وكأنّها لا تنتهي. في الفضاءِ الذي عاشَ فيه الأستاذ نصيف لمّا جاءَ معلمًّا في الإرساليّةِ الأميركيّةِ، ولتعليمِ المسيحيّين في مملكةِ البحرين، لا تزالُ الحياةُ تحاولُ أن تنجو بمحبّتها كي تضيء جهةَ الحكايةِ، التي تقولُ عن المدينةِ محبّتها وتسامحها، وقدرتها على التّعايشِ، خصوصًا وأنّه رغمَ مغادرةِ العائلةِ للبيتِ الأصليّ منذُ زمنٍ، إلّا أنّها عادت تفتّشُ عنه من أجلِ استملاكِه لمرّة أخرى، كي تمنحَ فضاء ذاكرتهِا وحياتهِا في مدينةِ المنامة التّاريخيّةِ مكانًا لتأسيسِ فضاء التّسامح.
لذا وبالتّعاونِ ما بين د. داوود نصيف ومركز الشّيخ إبراهيم بن محمّد آل خليفة للثّقافةِ والبحوث، يستدرجُ البيت الأصليّ الحكاية منذُ خيوطِها الأولى، كي تشرَح قيمَ الجمالِ والمحبّةِ والعميقةِ والتّعايشُ الذي يسمُ المدينة التّاريخيّة.
حيثُ ينتمي، تنبتُ للفنّان يعقوب قاسم حياةٌ أخرى، تقول عنه ما أودعَ هذه البلاد وهذا العالم من ذاكرةٍ وجمال. في المنامة، حيثُ البيتُ الذي يألفُه، والأشياء التي للمرةّ الأولى أيقظَت فيه بصيرة الفنّ كي تكون لها سيرة على هذه الأرضِ، يكرّسُ مركز الشّيخ إبراهيم بن محمّد آل خليفة للثّقافةِ والبحوث بيت يعقوب قاسم، كي يتشاطرَ مع المدينةِ التّاريخيّة ملمح الفنّان الذي تتذكّره، وكي يفي المكان إلى ابنِه محبّته العميقة، إذ منَحَ خلال عبوره المتعجّل لهذا العالم فنًّا بديعًا، أطروحات معاصرة، خيالًا ملهمًا، واشتغالات مكتزةٍ بالمعنى واللّون. لأجلِ ذلكَ كلّه، ولأنّ البيوتُ لا تنسى من يمنحُ لذاكرتها اسمًا أو أثراً، يُوقدُ البيتُ ذاكرةَ الحلمِ الذي مرّ فيه، كي يُضيءَ وجهَ المنامةِ بالفنونِ والجمالِ.
بيتُ العربِ، مكانٌ تنصهرُ فيهِ الجُغرافيا وتنتصرُ اللّغةُ والذّاكرة